"دافوس الرياض" يرسم ممرات الانتقال لاقتصاد عالمي مزدهر

في منتصف الطريق نحو تنفيذ "رؤية 2030"، خطى ثابتة وأداء قوي

AL MAJALLA
AL MAJALLA

"دافوس الرياض" يرسم ممرات الانتقال لاقتصاد عالمي مزدهر

ليس تفصيلا توقيت انعقاد "المنتدى الاقتصادي العالمي" خارج دافوس في ظل الصراعات الإقليمية المشتعلة على أكثر من جبهة، كما ليس مصادفة اختيار العاصمة السعودية، لرسم مستقبل "التعاون الدولي والنمو والطاقة من أجل التنمية"، شعار المنتدى، في وقت يقف المقلب الثاني من الشرق الأوسط عند حدود كارثة جديدة في رفح.

من الرياض، عاصمة "الشرق الأوسط الآخر"، انهمرت الرسائل السياسية والاقتصادية الواضحة الى كل دول العالم، ومن "دافوس الرياض" حددت الاتجاهات والمؤشرات المستقبلية في الطاقة والذكاء الاصطناعي وفرص النمو، ناهيك عن التوازنات الجيوسياسية الدقيقة المطلوبة للخروج من أتون الحروب، والعبور الى الاستقرار في المنطقة عموما.

ليس النجاح الباهر للحدث، ولا الحضور المميز مفاجئا لمن بات يعرف الرياض وفاعلياتها الضخمة منذ بدء التحول التاريخي الذي أرست أسسه ثماني سنوات من "رؤية 2030". الأهم أن "دافوس الرياض" حدد ممرات النجاة، بواقعية وبراغماتية، للخروج من الصراعات و"عدم اليقين" المدمر نحو اقتصاد مزدهر للمنطقة. كما أبلغ دول العالم أنها لا يمكن أن تنام في "الهناء الاقتصادي"، فيما بؤر الصراعات الإقليمية تتمدد، وممرات سلاسل التوريد العالمية تضيق وتختنق، والأرقام لا تعرف المواربة من مداخيل قناة السويس الى احتمالات خفض توقعات النمو لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وآسيا الوسطى الى أقل من نسبة 2,7 في المئة بحسب تقرير صندوق النقد الدولي، على هامش اجتماعات الربيع لمؤسسات "بريتون وودز" قبل أسبوعين.

"دافوس الرياض" أبلغ دول العالم أنها لا يمكن أن تنام في "الهناء الاقتصادي"، فيما بؤر الصراعات الإقليمية تتمدد، وممرات سلاسل التوريد العالمية تضيق وتختنق

كانت الدعوة جلية وهي انتهاج النمو والاستقرار ممرا ومعبرا بدلاً من السياسات الطائشة والمنحازة، وفي القلب يلعب الاقتصاد دورا رئيسا في تهدئة التوترات، فـ"المنطقة تحتاج إلى الاستقرار، والتركيز على شعوبها ونموها واقتصادها عوضاً عن السياسة والنزاعات"، كما شدد وزير المالية السعودي محمد الجدعان.

وفي عالم منتفخ بالمزايدات في قضية تغير المناخ، والأقوال دون الأفعال، كما برهنت تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا، جاءت إحدى أبلغ الرسائل من وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان الذي قال لمجتمع النخبة العالمي إن السعودية "تريد أن تمد العالم بكل أنواع الطاقة، سواء كانت هيدروجينية أو نووية. فنحن نريد مد العالم بالطاقة أياً كان نوعها"، مؤكدا انفتاح المملكة "للتعاون والشراكة مع كل دول العالم في مجال توفير الطاقة الخضراء" ونقل الهيدروجين، ومذكرا بأن "أرامكو" تتحول الى شركة طاقة متكاملة من بينها الطاقة المتجددة والطاقة الحرارية، وبأن معالجة التغير المناخي تتم بجهود دولية وإقليمية لا محلية فحسب، ما دام 60 في المئة من سكان العالم لا يمتلكون مصادر الطاقة المناسبة والصحيحة، اذا كان الهدف عالما أكثر استدامة فعلا، لكل شعوب الكوكب، لا لبعضها على حساب البعض الآخر.

لا شك أن حصاد "دافوس الرياض"، يقوم على ما زرعته "رؤية 2030" للسعودية التي أكملت 87 في المئة من مبادراتها

لا شك أن حصاد "دافوس الرياض"، يقوم على ما زرعته "رؤية 2030" للسعودية التي أكملت 87 في المئة من مبادراتها أو هي على السكة الصحيحة، كما أن 81 في المئة من مؤشرات الأداء الرئيسة حققت أهدافها السنوية، بحسب التقرير السنوي للرؤية في عامها الثامن.

يقف الاقتصاد السعودي على أرض صلبة مع تسجيل الناتج المحلي للنشاطات غير النفطية أعلى مستوى تاريخي له بمساهمة بلغت 50 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي لعام 2023، وهي نمت بمعدل 4.7 في المئة خلال عام 2023، مقارنة بعام 2022. كما ارتفعت الإيرادات الحكومية الإجمالية غير النفطية الى 121,8 مليار دولار في 2023، بارتفاع 72,2 مليار دولار مقارنة بالعام 2016.

أ.ف.ب.
وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن يتحدث في حلقة نقاش مع رئيس المنتدى الاقتصادي العالمي بورج بريندي (الى اليمين) خلال المنتدى الاقتصادي العالمي "دافوس الرياض" اليوم، 29 أبريل 2024

لقد شهدت المملكة العربية السعودية تحولاً ملحوظاً في السنوات الأخيرة، يمثل منعطفا في مسار تحقيق "رؤية 2030"، تمكنت المملكة خلالها من الحد من الاعتماد على النفط، وتنويع مصادر الدخل. وشكل هذا التحول نواة التقارير الرئيسة والمراجعات الدورية الايجابية الصادرة عن صندوق النقد الدولي، وكذلك البنك الدولي، عن السعودية، لمثابرتها في المضي قدما لتحتل موقعا بارزا بين الاقتصادات العالمية الأكثر متانة واستدامة.

وتبرز المملكة كشعلة مضيئة وسط اقتصاد عالمي متأرجح، يحكمه عدم اليقين وفوائد مرتفعة بشكل غير مسبوق، وزيادة نقاط الضعف المتعلقة بالديون، واتساع فجوة التفاوت الاقتصادي، والأخطار التي تتوقف على مسارات التضخم وأسعار الفائدة وانسيابية سلاسل التوريد على المدى القريب، وكذلك أسعار الأصول العقارية، وإجراءات السياسات النقدية للبنوك المركزية؛ كل ذلك على ايقاع التطورات الجيوسياسية، وصناعات الرقائق المكروية وأشباه الموصلات من البحر الأحمر الى تايوان.

خطوة كبيرة إلى الأمام

على الرغم من الأجواء السياسية والاقتصادية المتلبدة في سماء المنطقة جراء حرب غزة وتراجع السياحة واضطراب التجارة في الدول المحيطة وتخطي التوترات والمُسيرات الحربية حدود "قواعد الاشتباك" المعتادة، نجحت المملكة في تحقيق نمو اقتصادي مميز، وتصدرت معدلاته بين دول العشرين عام 2022، بمعدل بلغ 8,7 في المئة، مع نمو الناتج المحلي غير النفطي بنحو 4,8 في المئة، وتراجع معدلات البطالة بين السعوديين إلى 8 في المئة، وهي الأدنى في تاريخ المملكة. 

ويعزو صندوق النقد الدولي، نمو الاقتصاد السعودي إلى القطاعات غير النفطية والتأثير الإيجابي لاستمرار الاصلاحات والاستثمارات في المملكة، لا سيما في ظل البيئة التنظيمية والتجارية الحديثة، من ضمنها مجموعة جديدة من القوانين الرامية إلى ترسيخ ريادة الأعمال، وتكافؤ الفرص وحماية حقوق المستثمرين، والتزام الشفافية، وخفض تكاليف ممارسة الأعمال التجارية.

وكان عام 2022 القياسي من جوانب عدة، شهد نموا في صفقات وتراخيص الاستثمار الجديدة بنسبة 95 في المئة و267 في المئة على التوالي. هذا بالإضافة إلى قيام صندوق الاستثمار السعودي بتوزيع رأس المال، بما يساعد في تحفيز استثمارات القطاع الخاص.

تستعد 350 شركة أوروبية لنقل مقارها الإقليمية إلى المملكة، من بينها مجموعات أوروبية كبيرة، في وقت بلغ عدد الشركات الأوروبية التي تستثمر في السعودية 1300 شركة

لويجي دي مايو، الممثل الخاص للاتحاد الأوروبي

وتستعد 350 شركة أوروبية لنقل مقارها الإقليمية إلى المملكة، من بينها مجموعات أوروبية كبيرة، وفقا للسفير لويجي دي مايو، الممثل الخاص للاتحاد الأوروبي في منطقة الخليج، وذلك استجابة لخطة وضعتها الرياض بهدف توفير أكثر من 30 ألف فرصة عمل، في وقت بلغ عدد الشركات الأوروبية التي تستثمر في السعودية 1300 شركة. وبعد افتتاح مكتب لصندوق النقد الدولي في الرياض، يجرى افتتاح غرفة تجارية أوروبية لتكون الأولى في الخليج، لتساعد الشركات الأوروبية في تثبيت وجودها في المملكة وتسهيل إجراء الأعمال التجارية وربطها بالأسواق الأوروبية.

2025 سنة تعد بمزيد من النمو 

ويبدو أن الاقتصاد السعودي في طريقه إلى مزيد من الازدهار، لا سيما في السنة المقبلة، 2025، مع توقعات أصدرها صندوق النقد والبنك الدوليان. فعلى الرغم من تعديل طفيف للنظرة إلى النمو في السنة الجارية من 2,7 في المئة إلى 2,6 في المئة تبعا للخفض الطوعي في إنتاج النفط من قبل "أوبك بلس"، توقعت المؤسستان أن يصل النمو الاقتصادي في المملكة إلى نحو 6 في المئة عام 2025.

بالمقارنة، خفض صندوق النقد توقعه لنمو اقتصادات منطقة الخليج بشكل عام 1,3 نقطة مئوية إلى 2,4 في المئة في 2024، نتيجة الخفوضات الطوعية لإنتاج النفط والتحديات التي تواجهها المنطقة، لكنه توقع أن يتسارع النمو إلى 4,9 في المئة في 2025 مع تحسن إنتاج الهيدروكربون. وقدر الصندوق في تقريره حول الآفاق الاقتصادية الإقليمية لمنطقة الشرق الأوسط ووسط آسيا، أن يستقر النمو في منطقة الخليج على المدى المتوسط عند 3,5 في المئة تقريبا، وهي نسبة موازية لنمو الاقتصاد غير النفطي المرتقب للمنطقة، 3,6 في المئة، والذي يرتقب ارتفاعه إلى 4,5 في المئة في 2025.

وهذا أمر لحظه تقرير إيجابي للصندوق عن المملكة صدر في سبتمبر/أيلول 2023، عقب اختتام مناقشات مشاورات المادة الرابعة. فقد أكد أن الاقتصاد السعودي يشهد حالة ازدهار ونمو، وأن وضعية المملكة المالية تتسم بالقوة.

وتتوافق تحليلات "برايس ووتر هاوس كوبرز" التي تلت صدور هذا التقرير، مع توقعات المؤسستين الدوليتين. فوفقا لشركة التدقيق والاستشارات العالمية، أدت تغيرات إنتاج النفط، وتقلب أسعاره، وزيادة الإنفاق في 2023 إلى توقعات مالية لا شك مختلفة، مقارنة بعام 2022. إلا أن تأثير تلك التقلبات على الوضع المالي للمملكة محدود، إذ قابلها رفع وكالات التصنيف الائتماني العالمية درجة التصنيف السيادي للمملكة في العام نفسه، وزخم قوي للإصلاحات ولنمو العائدات غير النفطية مدفوعة بزيادة الاستهلاك وعائدات قطاعات الخدمات من ضمنها الإنفاق السياحي واستثمارات القطاع الخاص.

الذكاء الاصطناعي كصناعة سعودية

قبل أن يعصف الذكاء الاصطناعي التوليدي بالعالم، كانت المملكة أقرت في أكتوبر/تشرين الأول 2020، استراتيجيتها الوطنية للبيانات والذكاء الاصطناعي، من بين أهدافها جذب استثمارات محلية وأجنبية بقيمة 20 مليار دولار في حلول عام 2030. كذلك، تعهدت المملكة باستثمار حكومي قيمته 20 مليار دولار لاحتضان 300 شركة ناشئة في حلول السنة نفسها.

نيكولا فيراريس

للمزيد إقرأ: السعودية تدخل السباق العالمي لاستثمارات الذكاء الاصطناعي

وكشفت صحيفة "نيويورك تايمز" في آخر مارس/آذار، عن محادثات جرت لإنشاء صندوق قيمته 40 مليار دولار للاستثمار في الذكاء الاصطناعي، بشراكة محتملة بين صندوق الاستثمارات العامة السعودي، الذي بلغ حجم أصوله أخيرا 940 مليار دولار، و"أندريسن هورويتز"، إحدى كبرى شركات الاستثمار في "وادي السيليكون"، وممولين آخرين، وبالتعاون مع مصارف في "وول ستريت". 

وكان تقرير صندوق النقد في العام المنصرم قد أشار إلى الدور المحوري لـ"رؤية السعودية 2030" في احتلال المملكة مرتبة عالية في عدد من تصنيفات الرقمنة العالمية كالبنية التحتية الرقمية ونضج التحول الحكومي الرقمي، الذي أثبت فاعلية أكبر نتيجة لذلك، كما كان له تأثير واسع على تحسين الشمول المالي، ومرونة القطاع المالي. 

وفي إشارة إلى دأب المملكة على إحداث نقلة نوعية على صعيد الذكاء الاصطناعي، وتحقيق تحول أوسع نحو الرقمنة والاقتصاد الرقمي المزدهر، توقعت "برايس ووترهاوس كوبرز" أن يساهم الذكاء الاصطناعي في نحو 2,4 في المئة في الناتج المحلي الإجمالي للمملكة وبما قيمته 135 مليار دولار في الاقتصاد الوطني، في حلول عام 2030.

هذا عدا توجه السعودية في السنوات الأخيرة الى تنمية قطاعات واعدة بدأت تشهد ازدهارا غير مسبوق، حديثها يطول، مثل الثقافة والفنون والترفيه والرياضات التقليدية والالكترونية، ناهيك عن الفوز بتنظيم "إكسبو 2030" في الرياض، وهذه كلها ينتظر أن تساهم بشكل أكبر في تحفيز النشاط الاقتصادي وتنويع الاقتصاد وتوفير فرص عمل جديدة، وجذب الاستثمارات الأجنبية.

font change

مقالات ذات صلة